عمرو البحيرى
عدد المساهمات : 866 تاريخ التسجيل : 05/09/2011 العمر : 48
| موضوع: العقل البشري ودوره في فهم الرسالة الجمعة 2 ديسمبر - 23:47 | |
| { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) } [النساء : 163 - 165] فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول ، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير .. موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر : نوح. وإبراهيم. وإسماعيل. وإسحاق. ويعقوب. والأسباط. وعيسى. وأيوب. ويونس. وهارون. وسليمان. وداود. وموسى ... وغيرهم ممن قصهم اللّه على نبيه -صلى الله عليه وسلم- في القرآن ، وممن لم يقصصهم عليه .. موكب من شتى الأقوام والأجناس ، وشتى البقاع والأرضين. في شتى الآونة والأزمان. لا يفرقهم نسب ولا جنس ، ولا أرض ولا وطن. ولا زمن ولا بيئة. كلهم آت من ذلك المصدر الكريم. وكلهم يحمل ذلك النور الهادي. وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير. وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور .. سواء منهم من جاء لعشيرة. ومن جاء لقوم. ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر .. ثم من جاء للناس أجمعين : محمد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين. كلهم تلقى الوحي من اللّه. فما جاء بشيء من عنده. وإذا كان اللّه قد كلم موسى تكليما فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم. لأن القرآن - وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته - لم يفصل لنا في ذلك شيئا. فلا نعلم إلا أنه كان كلاما. ولكن ما طبيعته؟ كيف تم؟ بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه؟ ... كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن. وليس وراء القرآن - في هذا الباب - إلا أساطير لا تستند إلى برهان. أولئك الرسل - من قص اللّه على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة اللّه ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده اللّه للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان وينذرونهم ما أعده اللّه للكافرين العصاة من جحيم وغضب .. كل ذلك : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. وللّه الحجة البالغة في الأنفس والآفاق وقد أعطى اللّه البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده ، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل «مبشرين ومنذرين» يذكرونهم ويبصرونهم ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات ، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق. «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» .. عزيزا : قادرا على أخذ العباد بما كسبوا. حكيما : يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره اللّه في هذا الأمر وارتضاه .. ونقف من هذه اللفتة : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال. نقف منها : أولا : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا «الإنسان» قضية الإيمان باللّه التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى. لو كان اللّه - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها ، يعلم أن العقل البشري ، الذي وهبه للإنسان ، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته ، في دنياه وآخرته ، لو كله إلى هذا العقل وحده يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته ، فتستقيم على الحق والصواب ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة ، الرسل إليهم وتبليغهم عن ربهم ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. ولكن لما علم اللّه - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة .. لما علم اللّه - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل ، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» [الأسراء:آية15].. وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني .. فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية .. إذن .. ما هي وظيفة هذا العقل البشري وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟ إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ ، ويبين ، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ، ومنهج النظر الصحيح وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية ، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان ، والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن اللّه وبعد أن يفهم المقصود بها : أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها ، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من اللّه على الكفر بعد البيان .. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح ، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها .. إن هذه الرسالة تخاطب العقل .. بمعنى أنها توقظه ، وتوجهه ، وتقيم له منهج النظر الصحيح .. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه .. إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند اللّه ، والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند اللّه. وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير .. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة .. أو ممن يريدون إلغاء العقل ، ونفي دوره في الإيمان والهدى .. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا .. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات ، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها - أي إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ .. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها. وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات ، وفق مفهوم نصوصها .. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها. ليحكم بصحتها أو خطئها .. وقد علم أنها جاءته من عند اللّه. الذي لا يقص إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالخير. والمنهج الصحيح في التلقي عن اللّه ، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها كونها لنفسه من مقولاته «المنطقية»! أو من ملاحظاته المحدودة أو من تجاربه الناقصة .. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة ، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من اللّه - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص! إن العقل ليس إلها ، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات اللّه .. إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له .. هذا مجاله ، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة. وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع. وليس هنالك من هيئة ، ولا سلطة ، ولا شخص ، يملك الحجر على العقول ، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة ، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح ، المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل .. إن الإسلام دين العقل .. نعم .. بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته ولا يقهره يخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان. ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة. ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته ، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه .. فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن ، أو عدم التسليم بها فهو كافر .. وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها. وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها ، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها ، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ، ويختار منها ما يشاء ، ويترك منها ما يشاء .. فهذا هو الذي يقول اللّه عنه : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟» [البقرة:آية85]ويرتب عليه صفة الكفر ، ويرتب عليه كذلك العقاب .. فإذا قرر اللّه - سبحانه - حقيقة في أمر الكون ، أو أمر الإنسان ، أو أمر الخلائق الأخرى. أو إذا قرر أمرا في الفرائض ، أو في النواهي .. فهذا الذي قرره اللّه واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه. متى أدرك المدلول المراد منه .. إذا قال اللّه سبحانه «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» [الطلاق:آية12].. «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» [الأنبياء:آية30] .. «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» [النور:آية30] .. «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» [الرحمن:آيات:14/15].. إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء .. فالحق هو ما قال. وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي ، أو في علمي ، أو في تجاربي .. فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب. وما قرره اللّه - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب. وإذا قال اللّه سبحانه : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» [المائدة:آية44].. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» [البقرة:آيات278/279].. «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ...» [الأحزاب:آية33].. « وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ..»[النور:آية31] .. إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول : ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر اللّه ، أو فيما لم يأذن به اللّه ولم يشرعه للناس .. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب ، وتدفع إليه الشهوات والنزوات .. وما يقرره اللّه - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح .. وما قرره اللّه سبحانه من العقائد والتصورات ، أو من منهج الحياة ونظامها ، سواء في موقف العقل إزاءه .. متى صح النص ، وكان قطعي الدلالة ولم يوقت بوقت .. فليس للعقل أن يقول : آخذ في العقائد والشعائر التعبدية ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها .. فلو شاء اللّه أن يوقت مفعول النصوص لوقته. فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان .. احترازا من الجرأة على اللّه ، ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .. إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية لا في قبول المبدأ العام أو رفضه ، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال! وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية .. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين اللّه وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته وطبيعة الكائنات فيه والأحياء والانتفاع بما سخر اللّه له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج اللّه - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام!. ونقف من هذه اللفتة : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقفة أخرى : نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات اللّه عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم - تجاه البشرية كلها .. وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة .. إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء ، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم. فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر ، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ، ويترتب ثوابهم أو عقابهم .. في الدنيا والآخرة. إنه أمر هائل عظيم .. ولكنه كذلك .. ومن ثم كان الرسل - صلوات اللّه عليهم - يحسون بجسامة ما يكلفون. وكان اللّه - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم .. وهذا هو الذي يقول اللّه عنه لنبيه : «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» [المزمل:آية5] .. ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» [المزمل :من1 الآية إلى الآية5].. «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» [سورة الإنسان:من الآية23إلى الآية26].. وهذا هو الذي يشعر به نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول : «قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً .. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» [سورة الجن:الآيات22و23].. « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً .. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» [سورةالجن:من الآية26إلى الآية28].. إنه الأمر الهائل العظيم .. أمر رقاب الناس .. أمر حياتهم ومماتهم .. أمر سعادتهم وشقائهم .. أمر ثوابهم وعقابهم .. أمر هذه البشرية ، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ! فأما رسل اللّه - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل .. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل ، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق .. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك ، وضلالات تزين ، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين. كما صنع رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين. بما أنه المبلغ الأخير. وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان. إنما أزالها كذلك بالسنان «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» [البقرة:آية193]..وبقي الواجب الثقيل على من بعده .. على المؤمنين برسالته .. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده -صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة اللّه على الناس وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء .. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم - وأدى .. فالرسالة هي الرسالة والناس هم الناس .. وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات .. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة .. الموقف هو الموقف والعقبات هي العقبات ، والناس هم الناس. ولا بد من بلاغ ، ولا بد من أداء. بلاغ بالبيان. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة وتفتن الناس بالباطل وبالقوة .. وإلا فلا بلاغ ولا أداء .. إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله .. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها وشقوتها في هذه الدنيا ، وعدم قيام حجة اللّه عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله ، وعدم النجاة من النار .. فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟! إن الذي يقول : إنه «مسلم» إما أن يبلغ ويؤدي هكذا. وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى .. إنه حين يقول : إنه «مسلم» ثم لا يبلغ ولا يؤدي .. كل ألوان البلاغ والأداء هذه ، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلا من أداء شهادة له ، تحقق فيه قوله تعالى : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» [البقرة:آية143]. وتبدأ شهادته للإسلام ، من أن يكون هو بذاته. ثم ببيته وعائلته. ثم بأسرته وعشيرته ، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه .. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامة بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها .. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق .. فإذ استشهد في هذا فهو إذن «شهيد» أدى شهادته لدينه ، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو «الشهيد». وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال اللّه وعظمته ممثلة في علمه ، وعدله ، ورعايته ، وفضله ، ورحمته وبره .. بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى .. نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن وما أودعه من القوى والطاقات وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال. وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده .. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان .. فلقد علم اللّه أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور .. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له اللّه .. ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء ، ويغير فيه ما شاء ، ويركب فيه ما شاء ، ويحلل فيه ما شاء. منتفعا بتسخير اللّه لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطىء عقله ويصيب ، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق! ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على اللّه - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره وتقديره ، وقدرته وعلمه .. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس .. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج .. ولكن اللّه - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها ، أو تطمسها ، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ، قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة ، هذه الأجهزة ، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي .. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع أو تسقط حجتها وتستحق العقاب .. ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه اللّه ويختاره ، على ما يعلم به من ضعف ونقص فيكل إليه هذا الملك العريض .. خلافة الأرض .. وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك اللّه ذرة تمسكها يد اللّه فلا تضيع في ملكه الكبير! ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره ، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس ومن عقل هاد ولكنه يضل بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى .. وهو يكذب ويعاند ويشرد وينأى فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه ولا يحبس عنه بره وعطاياه ، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة .. ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب .. ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه .. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره .. استغنى عن هدايته ودينه ورسله .. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوّم بمنهج اللّه - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان .. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه وإنماء قدرات ممكنة النماء وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب .. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد اللّه ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم اللّه أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد اللّه وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة اللّه. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول : إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة .. فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا ، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان! وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها فلا يغني العقل البشري عنها .. أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة .. لا في تصور اعتقادي ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام .. إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا .. بل إنهم ليقولون : إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة اللّه وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة. وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة. وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية. وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن ، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى ، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها .. إنه ليس المستوي الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها «العلم» الصاعد .. ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها .. هو التوازن الذي ينشىء السعادة والطمأنينة ، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة .. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية - بعيدا عن الرسالة - في أي عصر .. والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام مهما التمعت بعض الجوانب ومهما تضخمت بعض الجوانب. فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى. وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى .. والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى | |
|